فصل: قال الفخر:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.تفسير الآيات (114- 115):

قوله تعالى: {فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (114) إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (115)}.

.مناسبة الآيتين لما قبلهما:

قال البقاعي:
ولما تقرر بما مضى من أدلة التوحيد، فثبت ثباتًا لا يتطرق إليه شك أن الله هو الإله وحده كما أنه هو الرازق وحده، ونبههم على دقائق في تقديره للأرزاق تدل على عظمته وشمول علمه وقدرته واختياره، فثبت أنهم ظالمون فيما جعلوا للأصنام من رزقه، وأنه ليس لأحد أن يتحرك إلا بأمره سبحانه، وختم ذلك بهذا المثل المحذر من كفران النعم، عقبه بقوله تعالى: صادًا لهم عن أفعال الجاهلية: {فكلوا} أي فتسبب عن جميع ما مضى أن يقال لهم: كلوا {مما رزقكم الله} أي الذي له الجلال والجمال مما عده لكم في هذه السورة وغيرها، حال كونه {حلالًا طيبًا} أي لا شبهة فيه ولا مانع بوجه {واشكروا نعمت الله} أي الذي له صفات الكمال حذرًا من أن يحل بكم ما أحل بالقرية الممثل بها {إن كنتم إياه} أي وحده {تعبدون} كما اقتضته هذه الأدلة، لأن وحده هو الذي يرزقكم وإلا عاجلكم بالعقوبة لأنه ليس بعد العناد عن البيان إلا الانتقام، فصار الكلام في الرزق والتقريع على عدم الشكر مكتنفًا الأمثال قبل وبعد.
ولما كان الإذن إنما هو في بعض الرزق في الحال المذكور فاحتيج إلى معرفته، وكانت المباحات أكثر من المحظورات، حصر القليل ليعلم منه الكثير، لأن كل ضدين معروفين إجمالًا عُين أحدهما، عرف من تعيينه الآخر، فقال تعالى: {إنما حرم} أي الله الذي لا أمر لأحد معه {عليكم الميتة} التي بينت على لسان الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنها ميتة وإن ذكيت {والدم ولحم الخنزير} خصه بالذكر بعد دخوله في الميتة لاتخاذ النصارى أكله كالدين {وما أهل} أي بأيّ إهلال كان من أي مهل كان.
ولما كان مقصود السورة لبيان الكمال، كان تقديم غيره لتقبيح حال المعتنى به أولى فقال تعالى: {لغير الله} أي الملك الأعظم الذي لا ملك سواه {به}.
ولما كان الإنسان قد يضطر إلى أكل كلّ ما يمكن أكله، بين لهم أنه رفق بهم فأباح لهم سد الرمق من الحرام فقال تعالى: {فمن اضطر} أي كيفما وقع له الاضطرار {غير باغ} على مضطر آخر {ولا عاد} سدَّ الرمق.
ولما كان الإذن في الأكل من هذه الأشياء حال الضرورة إنما هو رخصة، وكانت الشهوة داعية إلى ما فوق المأذون فيه قال تعالى: {فإن الله} أي المختص بصفات الكمال، بسبب تناوله منها على ما حده {غفور رحيم} فمن زاد على ما أذن له فيه فهو جدير بالانتقام. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

{فَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ الله إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} يعني أن ذلك الجوع إنما كان بسبب كفركم فاتركوا الكفر حتى تأكلوا، فلهذا السبب قال: {فَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ الله} قال ابن عباس رضي الله عنهما: فكلوا يا معشر المسلمين مما رزقكم الله يريد من الغنائم.
وقال الكلبي: إن رؤساء مكة كلموا رسول الله صلى الله عليه وسلم حين جهدوا وقالوا عاديت الرجال فما بال النسوان والصبيان.
وكانت الميرة قد قطعت عنهم بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فأذن في حمل الطعام إليهم فحمل إليهم العظام فقال الله تعالى: {فَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ الله حَلَلًا طَيّبًا} والقول ما قال ابن عباس رضي الله عنهما ويدل عليه قوله تعالى بعد هذه الآية: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الميتة والدم وَلَحْمَ الخنزير وَمَا أُهِلَّ} [النحل: 115]. الآية يعني أنكم لما آمنتم وتركتم الكفر فكلوا الحلال الطيب وهو الغنيمة واتركوا الخبائث وهي الميتة والدم.
{إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ}.
اعلم أن هذه الآية إلى آخرها مذكورة في سورة البقرة مفسرة هناك ولا فائدة في الإعادة وأقول: إنه تعالى حصر المحرمات في هذه الأشياء الأربعة في هذه السورة لأن لفظة: {إِنَّمَا} تفيد الحصر وحصرها أيضًا في هذه الأربعة في سورة الأنعام في قوله تعالى: {قُل لا أَجِدُ فِيمَا أُوْحِىَ إِلَىَّ مُحَرَّمًا على طَاعِمٍ} [الأنعام: 145]، وهاتان السورتان مكيتان، وحصرها أيضًا في هذه الأربعة في سورة البقرة لأن هذه الآية بهذه اللفظة وردت في سورة البقرة وحصرها أيضًا في سورة المائدة فإنه تعالى قال في أول هذه السورة: {أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأنعام إِلاَّ مَا يتلى عَلَيْكُمْ} [المائدة: 1]. فأباح الكل إلا ما يتلى عليهم.
وأجمعوا على أن المراد بقوله: {عَلَيْكُمْ} هو قوله تعالى في تلك السورة: {حُرّمَتْ عَلَيْكُمُ الميتة والدم وَلَحْمُ الخنزير وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ الله بِهِ} [المائدة: 3]. فذكر تلك الأربعة المذكورة في تلك السور الثلاثة ثم قال: {والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وَمَا أَكَلَ السبع إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ} [المائدة: 3]، وهذه الأشياء داخلة في الميتة، ثم قال: {وَمَا ذُبِحَ عَلَى النصب} وهو أحد الأقسام الداخلة تحت قوله: {وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ الله} فثبت أن هذه السور الأربعة دالة على حصر المحرمات في هذه الأربع سورتان مكيتان، وسورتان مدنيتان، فإن سورة البقرة مدنية.
وسورة المائدة من آخر ما أنزل الله تعالى بالمدينة، فمن أنكر حصر التحريم في هذه الأربع إلا ما خصه الإجماع والدلائل القاطعة كان في محل أن يخشى عليه، لأن هذه السورة دلت على أن حصر المحرمات في هذه الأربع كان شرعًا ثابتًا في أول أمر مكة وآخرها، وأول المدينة وآخرها وأنه تعالى أعاد هذا البيان في هذه السور الأربع قطعًا للأعذار وإزالة للشبهة، والله أعلم. اهـ.

.قال ابن عطية:

قوله: {فكلوا مما رزقكم الله} الآية، هذا ابتداء كلام آخر، ومعنى حكم، والفاء في قوله: {فكلوا} الصلة الكلام واتساق الجمل خرج من ذكر الكافرين والميل عليهم إلى أمر المؤمنين بشرع ما فوصل الكلام بالفاء وليست المعاني موصولة، هذا قول، والذي عندي أن الكلام متصل المعنى، أي وأنتم المؤمنون لستم كهذه القرية، {فكلوا} واشكروا الله على تباين حالكم من حال الكفرة وهذه الآية هي بسبب أن الكفار كانوا سنوا في الأنعام سننًا وحرموا بعضًا وأحلوا بعضًا فأمر الله تعالى المؤمنين بأكل جميع الأنعام التي رزقها الله عباده وقوله: {حلالًا} حال، وقوله: {طيبًا} أي مستلذًا، ووقع النص في هذا على المستلذات ففيه ظهور النعمة وهو عظم النعم وإن كان الحلال قد يكون غير مستلذ، ويحتمل أن يكون الطيب بمعنى الحلال وكرره مبالغة وتوكيدًا وباقي الآية بين، قوله: {إن كنتم إياه تعبدون} إقامة للنفوس كما تقول الرجل: إن كنت من الرجال فافعل كذا، على معنى إقامة نفسه، وذكر الطبري: أن بعض الناس قال نزلت هذه الآية خطابًا للكافر عن طعام كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثه إليهم في جوعهم، وأنحى الطبري على هذا القول وكذلك هو فاسد من غير وجه.
{إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ}.
حصرت {إنما} هذه المحرمات وقت نزول الآية، ثم نزلت المحرمات بعد ذلك وقرأ جمهور الناس: {الميْتة}، وقرأ أبو جعفر بن القعقاع: {الميّتة} وهذا هو الأصل وتخفيف الياء طارىء عليه، والعامل في نصبها {حرم}، وقرأت فرقة {الميتةُ} بالرفع على أن تكون {ما} بمعنى الذي.
قال القاضي أبو محمد: وكون {ما} متصلة ب {إن} يضعف هذا ويحكم بأنها حاصرة و{ما} كافة، وإذا كانت بمعنى الذي فيجب أن تكون منفصلة، وذلك خلاف خط المصحف، وقرأ الجمهور: {حرم} على معنى حرم الله، وقرأت فرقة {حُرِّم} على ما لم يسم فاعله، وهذا برفع {الميتةُ} ولا بد.
قال القاضي أبو محمد: و{الميتة} المحرمة هي ما مات من حيوان البر الذي له نفس سائلة حتف أنفه، وأما ما ليس له نفس سائلة كالجراد والبراغيث والذباب ودود التين وحيوان الفول وما مات من الحوت حتف أنفه وطفا على الماء ففيه قولان في المذهب، وما مات حتف أنفه من الحيوان الذي يعيش في الماء وفي البر كالسلاحف ونحوها ففيه قولان والمنع هنا أظهر إلا أن يكون الغالب عليه العيش في الماء {والدم} المحرم هو المنسفح الذي يسيل إن ترك مفردًا وأما ما خالط اللحم وسكن فيه فحلال طبخ ذلك اللحم فيه، ولا يكلف أحد تتبعه، ودم الحوت مختلف فيه وإن كان ينسفح لو ترك، {ولحم الخنزير} هو معظمه والمقصود الأظهر فيه، فلذلك خصه بالذكر، وأجمعت الأمة على تحريم شحمه وغضاريفه ومن تخصيصه استدلت فرقة على جواز الانتفاع بجلده إذا دبغ ولبسه، والأولى تحريمه جملة، وأما شعره فالانتفاع به مباح، وقالت فرقة ذلك غير جائز، والأول أرجح، وقوله: {وما أهل لغير الله به} يريد كل ما نوي بذبحه غير التقرب إلى الله والقرب إلى سواه، وسواء تكلم بذلك على الذبيحة أو لم يتكلم، لكن خَرجت العبارة عن ذلك ب {أهلّ} ومعناه صحيح على عادة العرب وقصد الغض منها وذلك أنها كانت إذا ساقت ذبيحة إلى صنم جهرت باسم ذلك الصنم وصاحت به، وقوله: {فمن اضطر} قالت فرقة: معناه أكره وقال الجمهور: معناه اضطره جوع واحتياج، وقرأت فرقة {فمنُ} بضم النون {اضطُر} بضم الطاء، وقرأت فرقة {فمنِ} بكسر النون {اضطِر} بكسر الطاء، على أن الأصل اضطرت، فنقلت حركة الراء إلى الطاء وأدغمت الراء في الراء، وقالت فرقة: الباغي صاحب البغي على الإمام، أو في قطع الطريق وبالجملة في سفر المعاصي، والعادي بمعناه في أنه ينوي المعصية، وقال الجمهور: {غير باغ} معناه غير مستعمل لهذه المحرمات مع وجود غيرها، {ولا عاد} معناه لا يعدو حدود الله في هذا، وهذا القول أرجح وأعم في الرخصة، وقالت فرقة: {باغ} و{عاد} في الشبع والتزود، واختلف الناس في صورة الأكل من الميتة، فقالت فرقة: الجائز من ذلك ما يمسك الرمق فقط، وقالت فرقة: بل يجوز الشبع التام، وقالت فرقة منهم مالك رحمه الله: يجوز الشبع والتزود، وقال بعض النحويين في قوله: {عاد} إنه مقلوب من عائد، فهو كشاكي السلاح وكيوم راح وكقول الشاعر: لأن بها الأشياء والعنبري، وقوله: {فإن الله غفور رحيم}، لفظ يقتضي منه الإباحة للمضطر، وخرجت الإباحة في هذه الألفاظ تحرجًا وتضييقًا في أمرها ليدل الكلام على عظم الخطر في هذه المحرمات، فغاية هذا المرخص له غفران الله له وحطه عنه ما كان يلحقه من الإثم لولا ضرورته. قال القاضي أبو محمد: وهذا التحريم الذي ذكرناه يفهمه الفصحاء من اللفظ وليس في المعنى منه شيء وإنما هو إيماء، وكذلك جعل في موضع آخر غايته أن لا إثم عليه، وإن كان لا إثم عليه وقوله هو له مباح يرجعان إلى معنى واحد فإن في هيئة اللفظين خلافًا. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {فَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ الله} أي كلوا يا معشر المسلمين من الغنائم.
وقيل: الخطاب للمشركين؛ لأن النبيّ صلى الله عليه وسلم بعث إليهم بطعام رِقّةً عليهم، وذلك أنهم لما ابتلوا بالجوع سبع سنين، وقطع العرب عنهم المِيرَة بأمر النبيّ صلى الله عليه وسلم أكلوا العظام المحرَقة والجِيفة والكلاب الميتة والجلود والعِلْهِز، وهو الوَبَر يعالج بالدّم.
ثم إن رؤساء مكة كلموا رسول الله صلى الله عليه وسلم حين جُهدوا وقالوا: هذا عذاب الرجال فما بال النساء والصبيان.
وقال له أبو سفيان: يا محمد، إنك جئت تأمر بصلة الرَّحِم والعفو، وإن قومك قد هلكوا؛ فادع الله لهم.
فدعا لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإذِن للناس بحمل الطعام إليهم وهم بعدُ مشركون. اهـ.

.قال الخازن:

{فكلوا مما رزقكم الله}.
في المخاطبين بهذا قولان: أحدهما، أنهم المسلمون، وهو قول جمهور المفسرين، والثاني، أنهم هم المشركون من أهل مكة.
قال الكلبي: لما اشتد الجوع بأهل مكة كلم رؤساؤهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: إنك إنما عاديت الرجال فما بال النساء والصبيان؟ فأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحملوا الطعام إليهم حكاه الواحدي وغيره والقول الأول هو الصحيح.
قال ابن عباس فكلوا يا معشر المؤمنين مما رزقكم الله يريد الغنائم {حلالًا طيبًا} يعني أن الله سبحانه وتعالى أحل الغنائم لهذه الأمة وطيبها لهم ولم تحل لأحد قبلهم {واشكروا نعمة الله} يعني التي أنعم بها عليكم {إن كنتم إياه تعبدون إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهلّ لغير الله به فمن اضطر غير باغ ولا عاد فإن الله غفور رحيم} تقدم تفسير هذه الآية وأحكامها في سورة البقرة فلم نعده هنا. اهـ.

.قال أبو حيان:

{فَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ الله}.
وقال أبو عبد الله الرازي: لما ذكر المثل قال: ولقد جاءهم يعني أهل مكة رسول منهم يعني من أنفسهم يعرفونه بأصله ونسبه، ولما وعظ تعالى بضرب ذلك المثل وصل هذا الأمر للمؤمنين بالفاء، فأمر المؤمنين بأكل ما رزقهم وشكر نعمته ليباينوا تلك القرية التي كفرت بنعم الله.
ولما تقدم فكفرت بأنعم الله جاء هنا: واشكروا نعمة الله.
وفي البقرة جاء: {يا أيها الذين آمنوا كلوا مما رزقناكم} لم يذكر من كفر نعمته فقال: {واشكروا الله} ولما أمرهم بالأكل مما رزقهم، عدد عليهم محرماته تعالى ونهاهم عن تحريمهم وتحليلهم بأهوائهم دون اتباع ما شرع الله على لسان أنبيائه.
وكذا جاء في البقرة ذكر ما حرم إثر قوله: {كلوا مما رزقناكم}.
وقوله: إنما حرم الآية تقدّم تفسير مثلها في البقرة. اهـ.

.قال أبو السعود:

قوله سبحانه: {فَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ الله}.
والمعنى وإذ قد استبان لكم حالُ من كفر بأنعم الله وكذّب رسوله وما حل بهم بسبب ذلك من اللتيا والتي أولًا وآخِرًا فانتهُوا عما أنتم عليه من كفران النعم وتكذيبِ الرسول عليه السلام كيلا يحِلَّ بكم مثلُ ما حل بهم واعرِفوا حقَّ نِعم الله تعالى وأطيعوا رسولَه عليه السلام في أمره ونهيه وكلوا من رزق الله حال كونه {حلالا طَيّبًا} وذروا ما تفترون من تحريم البحائرِ ونحوها {واشكروا نِعْمَتَ الله} واعرِفوا حقها ولا تقابلوها بالكفران، والفاء في المعنى داخلةٌ على الأمر بالشكر وإنما أُدخلت على الأمر بالأكل لكون الأكل ذريعةً إلى الشكر، فكأنه قيل: فاشكروا نعمةَ الله غِبَّ أكلها حلالًا طيبًا، وقد أُدمج فيه النهيُ عن زعم الحرمة، ولا ريب في أن هذا إنما يُتصوّر حين كان العذابُ المستأصِل متوقَّعًا بعدُ وقد تمهّدت مباديه، وبعد ما وقع فمن ذا الذي يُحذَّر ومن ذا الذي يُؤمر بالأكل والشكر؟ وحمْلُ قوله تعالى: {فَأَخَذَهُمُ العذاب وَهُمْ ظالمون} على الإخبار بذلك قبل الوقوعِ يأباه التصدّي لاستصلاحهم بالأمر والنهي، وتوجيهُ خطاب الأمرِ بالأكل إلى المؤمنين مع أن ما يتلوه من خطاب النهي متوجّهٌ إلى الكفار، كما فعله الواحديُّ حيث قال: فكلوا أنتم يا معشر المؤمنين مما رزقكم الله من الغنائم مما لا يليق بشأن التنزيلِ الجليل {إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} أي تطيعون أو إن صح زعمُكم أنكم تقصِدون بعبادة الآلهة عبادتَه تعالى.
{إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الميتة والدم وَلَحْمَ الخنزير وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ الله بِهِ}.
تعليلٌ لحِلّ ما أمرهم بأكله مما رزقهم، أي إنما حرم هذه الأشياء دون ما تزعُمون حرمتَه من البحائر والسوائبِ ونحوِها {فَمَنِ اضطر} بما اعتراه من الضرورة فتناول شيئًا من ذلك {غَيْرَ بَاغٍ} أي على مضطر آخرَ {وَلاَ عَادٍ} أي متجاوزٍ قدرَ الضرورة {فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} أي لا يؤاخذه بذلك، فأُقيم سببُه مُقامه، وفي التعرض لوصف الربوبية إيماء إلى علة الحكمِ وفي الإضافة إلى ضميره عليه السلام إظهارٌ لكمال اللطفِ به عليه السلام، وتصديرُ الجملة بإنما لحصر المحرماتِ في الأجناس الأربعة إلا ما ضُمّ إليه كالسّباع والحمُر الأهلية. اهـ.